فصل: الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزى دلالتها العلمية: {والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها(24)}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من الإعجاز العلمي في القرآن:

للدكتور زغلول النجار:
بحث بعنوان: من أسرار القرآن:

.الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزى دلالتها العلمية: {والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها(24)}:

بقلم: د. زغلول النجار:
جاءت هذه الآية الكريمة في مطلع الربع الأخير من سورة النازعات، وهي سورة مكية، تعني كغيرها من سور القرآن المكي بقضية العقيدة، ومن أسسها الايمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وغالبية الناس منشغلين عن الآخرة وأحوالها، والساعة وأهوالها، وعن قضايا البعث، والحساب، والجنة، والنار وهي محور هذه السورة.
وتبدأ السورة الكريمة بقسم من الله تعالى بعدد من طوائف ملائكته الكرام، وبالمهام الجسام المكلفين بها، أو بعدد من آياته الكونية المبهرة، على أن الآخرة حق واقع، وأن البعث والحساب أمر جازم، وربنا تبارك وتعالى غني عن القسم لعباده، ولكن الآيات القرآنية تأتي في صيغة القسم لتنبيه الناس إلى خطورة الأمر المقسم به، وأهميته أو حتميته.
ثم تعرض الآيات لشيء من أهوال الآخرة مثل {الراجفة} و{الرادفة} وهما الأرض والسماء وكل منهما يدمر في الآخرة، أو النفختان الأولي التي تميت كل حي، والثانية التي تحيي كل ميت بإذن الله، وتنتقل الآيات إلى وصف حال الكفار، والمشركين، والملاحدة، المتشككين، العاصين لأوامر رب العالمين في ذلك اليوم الرهيب، وقلوبهم خائفة وجلة، وأبصارهم خاشعة ذليلة، بعد أن كانوا ينكرون البعث في الدنيا، ويتساءلون عنه استبعادا له، واستهزاء به: هل في الامكان ان نبعث من جديد بعد أن تبلي الأجساد، وتنخر العظام؟ وترد الآيات عليهم حاسمة قاطعة بقرار الله الخالق أن الأمر بالبعث صيحة واحدة فإذا بكافة الخلائق قيام يبعثون من قبورهم ليواجهوا الحساب، أو كأنهم حين يبعثون يظنون أنهم عائدون للدنيا مرة ثانية فيفاجأون بالآخرة...
وبعد ذلك تلمح الآيات إلى قصة موسي عليه السلام مع فرعون وملئه، من قبيل مواساة رسولنا صلى الله عليه وسلم في الشدائد التي كان يلقاها من الكفار، وتحذيرهم مما حل بفرعون وبالمكذبين من قومه من عذاب، وجعل ذلك عبرة لكل عاقل يخشى الله تعالى ويخاف حسابه.
ثم تتوجه الآيات بالخطاب إلى منكري البعث من كفار قريش وإلي الناس عامة بسؤال تقريعي توبيخي: هل خلق الناس- على ضآلة أحجامهم، ومحدودية قدراتهم، وأعمارهم، وأماكنهم من الكون- أشد من خلق السماء وبنائها، ورفعها بلا عمد مرئية إلى هذا العلو الشاهق- مع ضخامة أبعادها، وتعدد أجرامها، ودقة المسافات بينها، وإحكام حركاتها، وتعاظم القوي الممسكة بها؟- وإظلام ليلها، وإنارة نهارها؟ وأشد من دحو الأرض، وإخراج مائها ومرعاها منها بعد ذلك، وإرساء الجبال عليها، وإرساء الأرض بها، تحقيقا لسلامتهم وأمنهم على سطح الأرض، ولسلامة أنعامهم ومواشيهم.
وبعد الإشارة إلى بديع صنع الله في خلق السماوات والأرض كدليل قاطع على إمكانية البعث عاودت الآيات الحديث عن القيامة وسمتها بـ: {الطامة الكبرى} لأنها داهية عظمي تعم بأهوالها كل شيء، وتغطي على كل مصيبة مهما عظمت، وفي ذلك اليوم يتذكر الإنسان أعماله من الخير والشر، ويراه مدونا في صحيفة أعماله، وبرزت جهنم للناظرين، فرآها كل إنسان عيانا بيانا، وحينئذ ينقسم الناس إلى شقي وسعيد، فالشقي هو الذي جاوز الحد في الكفر والعصيان، وفضل الدنيا علي الآخرة، وهذا مأواه جهنم وبئس المصير، والسعيد هو الذي نهي نفسه عن اتباع هواها انطلاقا من مخافة مقامه بين يدي ربه يوم الحساب، وهذا مأواه ومصيره إلى جنات النعيم بإذن الله.
وتختتم السورة بخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم متعلق بسؤال كفار قريش له عن الساعة متي قيامها؟، وترد الآيات بأن علمها عندالله الذي استأثر به، دون كافة خلقه، فمردها ومرجعها إلى الله وحده، وأما دورك أيها النبي الخاتم والرسول الخاتم فهو إنذار من يخشاها، وهؤلاء الكفار والمشركون يوم يشاهدون قيامها فإن هول المفاجأة سوف يمحو من الذاكرة معيشتهم على الأرض، فيرونها كأنها كانت ساعة من ليل أو نهار، بمقدار عشية أو ضحاها، احتقارا للحياة الدنيا، واستهانة بشأنها أمام الآخرة، ويأتي ختام السورة متوافقا مع مطلعها الذي أقسم فيه ربنا تبارك وتعالى على حقيقة البعث وحتميته، وأهواله وخطورته، لزيادة التأكيد على أنه أخطر حقائق الكون وأهم أحداثه، لكي يتم تناسق البدء مع الختام، وهذا من صفات العديد من سور القرآن الكريم.
وهنا يبرز التساؤل عن معني دحو الأرض، وعلاقته بإخراج مائها ومرعاها، ووضعه في مقابلة مع بناء السماء ورفعها- على عظم هذا البناء وذلك الرفع كصورة واقعة لطلاقة القدرة المبدعة في الخلق، وقبل التعرض لذلك لابد من استعراض الدلالة اللغوية للفظة الدحو الواردة في الآية الكريمة:

.الدلالة اللغوية لدحو الأرض:

(الدحو) في اللغة العربية هو المد والبسط والإلقاء، يقال: (دحا) الشيء (يدحوه) (دحوا) أي بسطه ومده، أو ألقاه ودحرجه، ويقال: (دحا) المطر الحصي عن وجه الأرض أي دحرجه وجرفه، ويقال: مر الفرس (يدحو) (دحوا) إذا جر يده على وجه الأرض فيدحو ترابها و(مدحي) النعامة هو موضع بيضها، و(أدحيها) موضعها الذي تفرخ فيه.

.شروح المفسرين للآية الكريمة:

في شرح الآية الكريمة: {والأرض بعد ذلك دحاها} ذكر ابن كثير يرحمه الله ما نصه: فسره بقوله تعالى: {أخرج منها ماءها ومرعاها}، وقد تقدم في سورة فصلت أن الأرض خلقت قبل خلق السماء، ولكن إنما دحيت بعد خلق السماء بمعني أنه أخرج ما كان فيها بالقوة إلى الفعل، عن ابن عباس {دحاها} ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعي، وشقق فيها الأنهار، وجعل فيها الجبال والرمال، والسبل والآكام، فذلك قوله: {والأرض بعد ذلك دحاها}....
وذكر صاحبا تفسير الجلالين رحمهما الله: {والأرض بعد ذلك دحاها} أي بسطها ومهدها لتكون صالحة للحياة، وكانت مخلوقة قبل السماء من غير دحو.
{أخرج} حال بإضمار قد أي: دحاها مخرجا {منها ماءها ومرعاها} بتفجير عيونها، و{مرعاها} ماترعاه النعم من الشجر والعشب، ومايأكله الناس من الأقوات والثمار، وإطلاق المرعي عليه استعارة.
وذكر صاحب الظلال يرحمه الله: ودحو الأرض تمهيدها وبسط قشرتها، بحيث تصبح صالحة للسير عليها، وتكوين تربة تصلح للإنبات،...، والله أخرج من الأرض ماءها سواء ما يتفجر من الينابيع، أو ما ينزل من السماء فهو أصلا من مائها الذي تبخر ثم نزل في صورة مطر؛ وأخرج من الأرض مرعاها، وهو النبات الذي يأكله الناس والأنعام، وتعيش عليه الأحياء مباشرة أو بالواسطة..
وجاء في (صفوة البيان لمعاني القرآن): ودحا الأرض- بمعني بسطها- وأوسعها، بعد ذكر ذلك الذي ذكره من بناء السماء، ورفع سمكها، وتسويتها، وإغطاش ليلها، وإظهار نهارها، وقد بين الله الدحو بقوله: {أخرج منها ماءها} بتفجير العيون، وإجراء الأنهار والبحار العظام.
{ومرعاها} أي جميع مايقتات به الناس والدواب بقرينة قوله بعد: {متاعا لكم ولأنعامكم}........ وأخبرنا بعد ذلك بأنه هو الذي بسط الأرض، ومهدها لسكني أهلها ومعيشتهم فيها: وقدم الخبر الأول لأنه أدل على القدرة الباهرة لعظم السماء، وانطوائها على الأعاجيب التي تحار فيها العقول. فبعدية الدحو إنما هي في الذكر لا في الإيجاد، وبجعل المشار إليه هو ذكر المذكورات من البناء وما عطف عليها لا أنفسها، لايكون في الآية دليل على تأخر الدحو عن خلق السماوات وما فيها.....
وجاء في (صفوة التفاسير): {والأرض بعد ذلك دحاها} أي والأرض بعد خلق السماء بسطها ومهدها لسكني أهلها {أخرج منها ماءها ومرعاها} أي أخرج من الأرض عيون الماء المتفجرة، وأجري فيها الأنهار، وأنبت فيها الكلأ والمرعي مما يأكله الناس والأنعام.
وجاء في (المنتخب في تفسير القرآن الكريم): والأرض بعد ذلك بسطها ومهدها لسكني أهلها، وأخرج منها ماءها بتفجير عيونها، وإجراء أنهارها، وإنبات نباتها ليقتات به الناس والدواب..
وهذا الاستعراض يدل على أن المفسرين السابقين يجمعون على أن من معاني دحو الأرض هو إخراج الماء والمرعي من داخلها، على هيئة العيون وإنبات النبات.
دحو الأرض في العلوم الكونية:
أولا: إخراج كل ماء الأرض من جوفها:
كوكب الأرض هو أغني كواكب مجموعتنا الشمسية في المياه، ولذلك يطلق عليه اسم (الكوكب المائي) أو (الكوكب الأزرق) وتغطي المياه نحو 71 من مساحة الأرض، بينما تشغل اليابسة نحو 29 فقط من مساحة سطحها، وتقدر كمية المياه على سطح الأرض بنحو 1360 مليون كيلومتر مكعب (1.36*910)؛ وقد حار العلماء منذ القدم في تفسير كيفية تجمع هذا الكم الهائل من المياه على سطح الأرض، من أين أتي؟ وكيف نشأ؟
وقد وضعت نظريات عديدة لتفسير نشأة الغلاف المائي للأرض، تقترح احداها نشأة ماء الأرض في المراحل الأولي من خلق الأرض، وذلك بتفاعل كل من غازي الأيدروجين والأوكسيجين في حالتهما الذرية في الغلاف الغازي المحيط بالأرض، وتقترح ثانية أن ماء الأرض أصله من جليد المذنبات، وتري ثالثة أن كل ماء الأرض قد أخرج أصلا من داخل الأرض. والشواهد العديدة التي تجمعت لدي العلماء تؤكد أن كل ماء الأرض قد أخرج أصلا من جوفها، ولايزال خروجه مستمرا من داخل الأرض عبر الثورات البركانية.
ثانيا: إخراج الغلاف الغازي للأرض من جوفها:
بتحليل الأبخرة المتصاعدة من فوهات البراكين في أماكن مختلفة من الأرض اتضح أن بخار الماء تصل نسبته إلى أكثر من 70 من مجموع تلك الغازات والأبخرة البركانية، بينما يتكون الباقي من اخلاط مختلفة من الغازات التي ترتب حسب نسبة كل منها على النحو التالي: ثاني أكسيد الكربون، الإيدروجين، أبخرة حمض الأيدروكلوريك (حمض الكلور)، النيتروجين، فلوريد الإيدروجين، ثاني أكسيد الكبريت، كبريتيد الإيدروجين، غازات الميثان والأمونيا وغيرها.
ويصعب تقدير كمية المياه المندفعة على هيئة بخار الماء إلى الغلاف الغازي للأرض من فوهات البراكين الثائرة، علما بأن هناك نحو عشرين ثورة بركانية عارمة في المتوسط تحدث في خلال حياة كل فرد منا، ولكن مع التسليم بأن الثورات البركانية في بدء خلق الأرض كانت أشد تكرارا وعنفا من معدلاتها الراهنة، فإن الحسابات التي أجريت بضرب متوسط ماتنتجه الثورة البركانية الواحدة من بخار الماء من فوهة واحدة، في متوسط مرات ثورانها في عمر البركان، في عدد الفوهات والشقوق البركانية النشيطة والخامدة الموجودة اليوم على سطح الأرض أعطت رقما قريبا جدا من الرقم المحسوب بكمية المياه على سطح الأرض.
ثالثا: الصهارة الصخرية في نطاق الضعف الأرضي هي مصدر مياه وغازات الأرض:
ثبت أخيرا أن المياه تحت سطح الأرض توجد على أعماق تفوق كثيرا جميع التقديرات السابقة، كما ثبت أن بعض مياه البحار والمحيطات تتحرك مع رسوبيات قيعانها الزاحفة إلى داخل الغلاف الصخري للأرض بتحرك تلك القيعان تحت كتل القارات، ويتسرب الماء إلى داخل الغلاف الصخري للأرض. عبر شبكة هائلة من الصدوع والشقوق التي تمزق ذلك الغلاف في مختلف الاتجاهات، وتحيط بالأرض إحاطة كاملة بعمق يتراوح بين 150، 65 كيلومترا.
ويبدو أن الصهارة الصخرية في نطاق الضعف الأرضي هي مصدر رئيسي للمياه الأرضية، وتلعب دورا مهما في حركة المياه من داخل الأرض إلى السطح وبالعكس، وذلك لأنه لولا امتصاصها للمياه ما انخفضت درجة حرارة انصهار الصخور، وهي إذا لم تنصهر لتوقفت ديناميكية الأرض، بما في ذلك الثورات البركانية، وقد ثبت أنها المصدر الرئيسي للغلاف المائي والغازي للأرض.
وعلى ذلك فقد أصبح من المقبول عند علماء الأرض أن النشاط البركاني الذي صاحب تكوين الغلاف الصخري للأرض في بدء خلقها هو المسئول عن تكون كل من غلافيها المائي والغازي، ولاتزال ثورات البراكين تلعب دورا مهما في إثراء الأرض بالمياه، وفي تغيير التركيب الكيميائي لغلافها الغازي وهو المقصود بدحو الأرض.
وذلك نابع من حقيقة أن الماء هو السائل الغالب في الصهارات الصخرية على الرغم من أن نسبته المئوية إلى كتلة الصهارة قليلة بصفة عامة، ولكن نسبة عدد جزيئات الماء إلى عدد جزيئات مادة الصهارة تصل إلى نحو 15، وعندما تتبرد الصهارة الصخرية تبدأ مركباتها في التبلور بالتدريج، وتتضاغط الغازات الموجودة فيها إلى حجم أقل، وتتزايد ضغوطها حتي تفجر الغلاف الصخري للأرض بقوة تصل إلى مائة مليون طن، فتشق ذلك الغلاف وتبدأ الغازات في التمدد، والانفلات من الذوبان في الصهارة الصخرية، ويندفع كل من بخار الماء والغازات المصاحبة له والصهارة الصخرية إلى خارج فوهة البركان أو الشقوق المتصاعدة منها، مرتفعة إلى عدة كيلومترات لتصل إلى كل أجزاء نطاق التغيرات المناخية (8- 18 كيلومترا فوق مستوي سطح البحر)، وقد تصل هذه النواتج البركانية في بعض الثورات البركانية العنيفة إلى نطاق التطبق (30- 80 كيلومترا) فوق مستوي سطح البحر وغالبية مادة السحاب الحار الذي تتراوح درجة حرارته بين 500، 250 درجة مئوية يعاود الهبوط إلى الأرض بسرعات تصل إلى 200 كيلومتر في الساعة لأن كثافته أعلى من كثافة الغلاف الغازي للأرض.
والماء المتكثف من هذا السحاب البركاني الحار الذي يقطر مطرا من بين ذرات الرماد التي تبقي عالقة بالغلاف الغازي للأرض لفترات طويلة يجرف معه كميات هائلة من الرماد والحصي البركاني مكونا تدفقا للطين البركاني الحار على سطح الأرض في صورة من صور الدحو.
ومنذ أيام ثار بركان في إحدى جزر الفلبين فغمرت المياه المتكونة أثناء ثورته قرية مجاورة آهلة بالسكان بالكامل.
وقد يصاحب الثورات البركانية خروج عدد من الينابيع، والنافورات الحارة وهي ثورات دورية للمياه والأبخرة شديدة الحرارة تندفع إلى خارج الأرض بفعل الطاقة الحرارية العالية المخزونة في أعماق القشرة الأرضية.
ويعتقد علماء الأرض أن وشاح كوكبنا كان في بدء خلقه منصهرا انصهارا كاملا أو جزئيا، وكانت هذه الصهارة هي المصدر الرئيسي لبخار الماء وعدد من الغازات التي اندفعت من داخل الأرض، وقد لعبت هذه الأبخرة والغازات التي تصاعدت عبر كل من فوهات البراكين وشقوق الأرض- ولا تزال تلعب- دورا مهما في تكوين وإثراء كل من الغلافين المائي والغازي للأرض وهو المقصود بالدحو.
رابعا: دورة الماء حول الأرض:
شاءت إرادة الخالق العظيم أن يسكن في الأرض هذا القدر الهائل من الماء، الذي يكفي جميع متطلبات الحياة على هذا الكوكب، ويحفظ التوازن الحراري على سطحه، كما يقلل من فروق درجة الحرارة بين كل من الصيف والشتاء صونا للحياة بمختلف أشكالها ومستوياتها.
وهذا القدر الذي يكون الغلاف المائي للأرض موزونا بدقة بالغة، فلو زاد قليلا لغطي كل سطحها، ولو قل قليلا لقصر دون الوفاء بمتطلبات الحياة عليها.
ولكي يحفظ ربنا تبارك وتعالى هذا الماء من التعفن والفساد، حركه في دورة معجزة تعرف باسم دورة المياه الأرضية تحمل في كل سنة 380، 000 كيلو متر مكعب من الماء بين الأرض وغلافها الغازي، ولما كانت نسبة بخار الماء في الغلاف الغازي للأرض ثابتة، فإن معدل سقوط الأمطار سنويا علي الأرض يبقي مساويا لمعدل البخر من على سطحها، وإن تباينت أماكن وكميات السقوط في كل منطقة حسب الأرادة الإلهية، ويبلغ متوسط سقوط الأمطار على الأرض اليوم 85، 7 سنتيمتر مكعب في السنة، ويتراوح بين 11، 45 متر مكعب في جزر هاواي وصفر في كثير من صحاري الأرض. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: «ما من عام بأمطر من عام».
وإذ قال «من قال أمطرنا بنوء كذا أو نوء كذا فقد كفر؛ ومن قال أمطرنا برحمة من الله وفضل فقد آمن».
وتبخر أشعة الشمس من أسطح البحار والمحيطات 320، 000 كيلو متر مكعب من الماء في كل عام وأغلب هذا التبخر من المناطق الاستوائية حيث تصل درجة الحرارة في المتوسط إلى 25 درجة مئوية، بينما تسقط على البحار والمحيطات سنويا من مياه المطر 284، 000 كيلو مترا مكعبا، ولما كان منسوب المياه في البحار والمحيطات يبقي ثابتا في زماننا فإن الفرق بين كمية البخر من أسطح البحار والمحيطات وكمية ما يسقط عليها من مطر لابد وأن يفيض إليها من القارات.
وبالفعل فإن البخر من أسطح القارات يقدر بستين ألف كيلو متر مكعب بينما يسقط عليها سنويا ستة وتسعون ألفا من الكيلو مترات المكعبة من ماء المطر والفارق بين الرقمين بالإيجاب هو نفس الفارق بين كمية البخر وكمية المطر في البحار والمحيطات (36، 000 كيلو متر مكعب) فسبحان الذي ضبط دورة المياه حول الأرض بهذه الدقة الفائقة.
ويتم البخر على اليابسة من أسطح البحيرات والمستنقعات، والبرك، والأنهار، وغيرها من المجاري المائية، ومن أسطح تجمعات الجليد، وبطريقة غير مباشرة من أسطح المياه تحت سطح الأرض، ومن عمليات تنفس وعرق الحيوانات، ونتح النباتات، ومن فوهات البراكين.
ولما كان متوسط ارتفاع اليابسة هو 823 مترا فوق مستوي سطح البحر، ومتوسط عمق المحيطات 3800 مترا تحت مستوي سطح البحر، فإن ماء المطر الذي يفيض سنويا من اليابسة إلى البحار والمحيطات (ويقدر بستة وثلاثين ألفا من الكيلومترات المكعبة) ينحدر مولدا طاقة ميكانيكية هائلة تفتت صخور الأرض وتتكون منها الرسوبيات والصخور الرسوبية بما يتركز فيها من ثروات أرضية، ومكونة التربة الزراعية اللازمة لإنبات الأرض، ولو أنفقت البشرية كل ما تملك من ثروات مادية ما استطاعت أن تدفع قيمة هذه الطاقة التي سخرها لنا ربنا من أجل تهيئة الأرض لكي تكون صالحة للعمران...!!!.
خامسا: توزيع الماء على سطح الأرض:
تقدر كمية المياه على سطح الأرض بنحو 1360 مليون كيلو متر مكعب، أغلبها على هيئة ماء مالح في البحار والمحيطات (97، 20)، بينما يتجمع الباقي (2، 8) على هيئة الماء العذب بأشكاله الثلاثة الصلبة، والسائلة، والغازية؛ منها (2، 15 من مجموع مياه الأرض) على هيئة سمك هائل من الجليد يغطي المنطقتين القطبيتين الجنوبية والشمالية بسمك يقترب من الأربعة كيلو مترات، كما يغطي جميع القمم الجبلية العالية، والباقي يقدر بنحو 0.65 فقط من مجموع مياه الأرض يختزن أغلبه في صخور القشرة الأرضية على هيئة مياه تحت سطح الأرض، تليه في الكثرة النسبية مياه البحيرات العذبة، ثم رطوبة التربة الأرضية، ثم رطوبة الغلاف الغازي للأرض، ثم المياه الجارية في الأنهار وتفرعاتها.
وحينما يرتفع بخار الماء من الأرض إلى غلافها الغازي فإن أغلبه يتكثف في نطاق الرجع (نطاق الطقس أو نطاق التغيرات المناخية) الذي يمتد من سطح البحر إلى ارتفاع يتراوح بين 16 و17 كيلو مترا فوق خط الاستواء، وبين 6 و8 كيلو مترات فوق القطبين، ويختلف سمكه فوق خطوط العرض الوسطي باختلاف ظروفها الجوية، فينكمش إلى ما هو دون السبعة كيلو مترات في مناطق الضغط المنخفض ويمتد إلى نحو الثلاثة عشر كيلو مترا في مناطق الضغط المرتفع، وعندما تتحرك كتل الهواء الحار في نطاق الرجع من المناطق الاستوائية في اتجاه القطبين فإنها تضطرب فوق خطوط العرض الوسطي فتزداد سرعة الهواء في اتجاه الشرق متأثرا باتجاه دوران الأرض حول محورها من الغرب إلى الشرق. ويضم هذا النطاق 66 من كتلة الغلاف الغازي للأرض، وتتناقص درجة الحرارة والضغط فيه باستمرار مع الارتفاع حتي تصل إلى نحو 60 درجة مئوية تحت الصفر والي عشر الضغط الجوي العادي عند سطح البحر في قمته المعروفة باسم مستوي الركود الجوي وذلك لتناقص الضغط بشكل ملحوظ عنده.
ونظرا لهذا الانخفاض الملحوظ في كل من درجة الحرارة والضغط الجوي، والي الوفرة النسبية لنوي التكثف في هذا النطاق فإن بخار الماء الصاعد من الأرض يتمدد تمددا ملحوظا مما يزيد في فقدانه لطاقته، وتبرده تبردا شديدا ويساعد على تكثفه وعودته إلى الأرض مطرا أو بردا أو ثلجا، وبدرجة أقل على هيئة ضباب وندي في المناطق القريبة من الأرض.
سادسا: دحو الأرض معناه إخراج غلافيها المائي والغازي من جوفها:
ثبت أن كل ماء الأرض قد أخرجه ربنا تبارك وتعالى من داخل الأرض عن طريق الأنشطة البركانية المختلفة المصاحبة لتحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض.
كذلك فإن ثاني أكثر الغازات اندفاعا من فوهات البراكين هو ثاني أكسيد الكربون، وهو لازمة من لوازم عملية التمثيل الضوئي التي تقوم بتنفيذها النباتات الخضراء مستخدمة هذا الغاز مع الماء وعددا من عناصر الأرض لبناء خلايا النبات وأنسجته، وزهوره، وثماره، ومن هنا عبر القرآن الكريم عن إخراج هذا الغاز المهم وغيره من الغازات اللازمة لإنبات الأرض من باطن الأرض تعبيرا مجازيا بإخراج المرعي، لأنه لولا ثاني أكسيد الكربون ما أنبتت الأرض، ولا كستها الخضرة.
سابعا: من معجزات القرآن الإشارة إلى تلك الحقائق العلمية بلغة سهلة جزلة:
على عادة القرآن الكريم فإنه عبر عن تلك الحقائق الكونية المتضمنة إخراج كل من الغلافين المائي والغازي للأرض من داخل الأرض بأسلوب لا يفزغ العقلية البدوية في صحراء الجزيرة العربية وقت تنزله، فقال عز من قائل: {والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها} والعرب في قلب الجزيرة العربية كانوا يرونالأرض تتفجر منها عيون الماء، ويرون الأرض تكسي بالعشب الأخضر بمجرد سقوط المطر، ففهموا هذا المعنى الصحيح الجميل من هاتين الآيتين الكريمتين، ثم نأتي نحن اليوم فنري في نفس الآيتين رؤية جديدة مفادها أن الله تعالى يمن على الأرض وأهلها وعلى جميع من يحيا علي سطحها أنه سبحانه قد هيأها لهذا العمران بإخراج كل من أغلفتها الصخرية والمائية والغازية من جوفها حيث تصل درجات الحرارة إلى آلاف الدرجات المئوية مما يشهد لله الخالق بطلاقة القدرة، وببديع الصنعة، وبكمال العلم، وتمام الحكمة، كما يشهد للنبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقي هذا الوحي الخاتم بأنه صلى الله عليه وسلم كان موصولا بالوحي، ومعلما من قبل خالق السموات والأرض، فلم يكن لأحد من الخلق وقت تنزل القرآن الكريم ولا لقرون متطاولة من بعده إلمام بحقيقة أن كل ماء الأرض، وكل هواء الأرض قد أخرجه ربنا تبارك وتعالى من داخل الأرض، وهي حقيقة لم يدركها الإنسان إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين فسبحان منزل القرآن من قبل أربعة عشر قرنا ووصفه بقوله الكريم:
{قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما} (الفرقان: 6).
وصلى الله وسلم وبارك على رسولنا الأمين الذي تلقي هذا الوحي الرباني فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في سبيل الله حتي أتاه اليقين، والذي وصفه ربنا سبحانه وتعالى بقوله الكريم: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفي بالله شهيدا} (النساء: 166). اهـ.